المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تميمه بطعم الفا نليه



كيمو كيمو
2008/9/28, 11:01 PM
جمعنا المكان، ثم الطريق، ثم الضحكة، ثم الضيق..! وطال مكوثنا سوياً، فاكتملت استدارة ثلاثة أقمار رمضانية. ثـــم...
ثم اتفقنا يوماً على أن نتفق!

** ** ** **

كان لدينا كثير من العمل مما سيحتّم علينا قضاء نهار رمضان بأكمله في المجلة، مما يعني أننا سنفطر سوياً. وتبرق أمنية غالية في رأس الشبيبة، ويسألني أستاذ "أحمد عمار":
- أخبار "محمد" و"أحمد" و"عمرو" إيه يا "محمود"؟ عايزين بكرة نلعب ماتش كورة سوا؟

ويتضامن "محمد هشام عبيه" معه ويسألني أيضاً بأسلوبه الذي يميل أحياناً للاقتصاد في عدد الكلمات:
- آه أخبار الإخوة إيه يا "محمود"؟

مُشدِداً على الواو وناطقاً الخاء من أعلى نقطة في سقف الحلق، فزاد من سمكها وفخّمها أكثر، وأحسست أن إخوتي كبار جداً أو كـُثر جداً!!
- "محمد" في (6 أكتوبر).. وغير متاح..
- طيب "أحمد" و"عمرو"؟
- لأ.. "أحمد" و"عمرو" معانا.

ويدخل "إبراهيم فايق" محدثاً ضجة مبهجة، وبنبرة عنترية لا نقاش فيها، رافعاً يده بالراية كحكم الساحة:
- أنا هاخد "أحمد" و"عمرو" في فريقي.. وخليكم إنتم في فريق الملظلظين.. كفاية كل واحد يزقّ كرشه.

قالها وهو يلاعب حاجبيه، ومكشكشاً أنفـه، ويضحك ضحكته الشريرة التي تطيّر العصافير وتخيفني ليلاً..
- هع.. هع.. هع.. هع.. هع

يمتعض "محمد".. تضحك "نانسي".. ويخشوشن "أحمد" ويحتدّ وهو يربت على الكرش ناظراً إليه بعطف:
- احترموا نفسكم.. ده كرشي!
- بكرة... اتفقنا؟
- ماشي..
- و"محمود فودة"؟
- كلمناه ومعانا..
- ماحدش يطلع عيل..
- ماحدش هيطلع عيل..

** ** ** **

أيقظني فكري الساعة الثانية ليلاً، ليذكرني أنه لم يتبقَّ سوى أسبوعين، وأنه عليّ أن أصنع شيئاً مميزاً احتفالاً. أيقظني في هذا الوقت الحرج.. بحثت.. تململت.. وحدي بحثت.. وأضناني البحث في المتاح حتى وجدت الفكرة. فكرة صغيرة، عادية، انزوَت مُستحِيَة في قائمة الاختيارات الضيقة. لم تُرْضِني وأقلقني أنها غير جديدة في حد ذاتها. نفضت فراشي بقدمي في ملل، لعل النفض -أو الملل- يخرج لي فكرة جديدة. لكن لم أجد متاحاً أمامي غيرها. حاولت أن أطمئن نفسي بإقناعها -ولو كذباً- أنه قد يكون لها طعم ووقع مختلف من كونها فكرة عادية في مناسبة غير عادية، وأنها قد -قد يعني- تكون مفاجأة. فعزمت أن تكون من صنع يدي، أتقن توليفها، وأُسكـِنُ فيها خلاصة فرحتي، وأقدمها بشكل خاص؛ لأنها للمناسبة غير العادية.. لأجل توديع عزوبية "إبراهيم".


وبعد الاتفاق مع نفسي على مفرداتها، شغلتني طريقة تقديمها وما سيحتويها. فكما يهمني القلب والحشو، يهمني الشكل واللفـة، ولأن إمكانيات بنوتة للتحرك في حدود الساعة الثالثة ليلاً معدومة، لم يكن أمامي إلا البحث في أركان البيت!! فانتقل البحث من حيز الفـِكر إلى حيز المكان. لم أكن أعرف بالتحديد ما أبحث عنه! أجيل نظري في الدواليب.. ثم أقف أمام كل سرير.. أطبّق الملاءة، وأزيح المرتبة، وأرفع المُـلّة، والكراتين المفرودة التي تُحفظ من التراب، لأفتح السحّارة وأنظر لما تحتها بحثاً عن أي جديد أو مخصوص. حتى وجدتها في السرير الذي يخبئ جهازي عندما أصبح عروسة بإذن الله. نظرتُ إليها ملياً.. لم أتردّد، ولم يمنعني تشاؤم الناس من استخدام شيء من جهاز العروسة قبل أوانه. فسحبتها من بين أطقم الكوبايات، والملاعق، وصناديق الأركوبال. صينية اشترتها لي ماما قبل رحيلها، جميلة، فضية، لامعة، خفيضة الجدار، مخصصة للحلويات فقط. وفي منتصفها لاصقٌ سميك عليه ماركتها. انتزعته بحرص شديد واحتفظت به تميمة ضد البـُعد والنسيان.

وبدأت في تنفيذ الفكرة..

سميت الله وحككتُ يدي في بعضهما لأستدعي دفئهما. سوّيت أطرافها جيداً ثم فردت كفيّ وضغطت عليها بهما. لم يستوِ سطحها تمام الاستواء.. فأمسكت بطبق بايركس مسطح من أطباق جهاز ماما رحمها الله. طبق رقيق بلون الظهيرة الشاحب في الشتاء، حينما تحنو الشمس مكتفيةً بالتربيت على الدنيا بأطراف أصابعها. تتراصّ على أطرافه ورداتٌ برية صغيرة هاربة من ربيـعٍ جبـلي. أحبه، وأحب أكل الفاكهة فيه، يشاركني بهجتي إذا زارتني الفرحة، ويؤنس وحدتي حينما تخلو الدنيا من حولي. رفعته ليقابل نور المطبخ النيون حتى رأيت وجهي على سطحه الرقراق. وابتسمتُ حينما قاسمتني ورداتـُه ملامحي فانزلقت عليه ابتسامتي، وسقطت في الصينية لتختبئ في حشو الكريمة. وضعته فوقها وضغطت عليه بحذر حتى لا يخرج الحشو من الأطراف فتساوى سطحها تماماً. مسحت جوانبها وقاعدتها بالمنشفة لكي لا تحرق الحرارة أي بواقٍ عالقة بها فيشوب لونها الفضي بقعاً بنية. أدخلتها في المنتصف حتى توهجت حوافها. فسقيتها بالشربات لتخرج بوجه أشقر تعلوه لفحة حمراء ذهبية، تفوح منه رائحة الفانيليا.

استوت الفكرة الساعة الخامسة صباحاً لتصبح كنافة ساخنة بالكريمة. انتظرتها حتى بردت وتماسكت. وصنعت لها قاعدة على مقاسها من ظهر نتيجة قديمة، ولففتها بورق أبيض سميك، وربطتها بشريط سماوي تعانـَق طرفاه في فيوكنة، لأضمن وصولها من حـي الجيزة إلى حـي مصر الجديدة سالمة، بنفس الوجه المتساوي، والخد الأسيل المتورد. ومشيت الهوينى وأنا أحملها برفق.. واحتضنتها في المواصلات، وجعلت من ذراعيّ عازلاً يمنع وصول اهتزازات العجلات إليها. ووصلت بدري بدري قبل الجميع. ووضعتها في الثلاجة بعد معاناة في ضبط الرف الذي سأضعها عليه حتى يتوازى مع الفراغ بين أرفف الباب حتى ينغلق باب الثلاجة.

كان يوماً مشحوناً بالمهام التحريرية، والمشاعر، والتحمس، وقليل من الزهق، والجوع. لملم النهار ثوبه.. وبعد أن فرقتنا المكاتب، والتركيز اجتمعنا لتحضير الإفطار:
- إنت تروح تجيب تمر هندي وسوبيا..
- وإنت تجيب لنا مخلل..
- وإنتِ يا "دعاء" و"نانسي" تجهزوا السفرة.. لحد ما نجيب السمك المشوي!
استأذننا من د."أحمد الشامي" رئيس التحرير. والتففنا حول السفرة التي كانت في الأصل مائدة المييتنج المستطيلة. وبعد أن اتفقنا واجتمعنا على الأكل، اختلفنا على أصل ما نشربه. أسأل "إبراهيم" متعهد المشروبات باستنكار:

- إيه ده؟؟
يرفع حاجباً ويضيق عيناً وينظر من فوق النظارة الفريملس (بدون إطار):
- الأبيض سوبيا طبعاً.. أما التاني الأسود أو الأحمر فده تمر هندي سيادتك.. أي خدمة..
- أفندم؟!
- أيوه الأبيض سوبيا والغامق تمـر.. تشربي إيه حضرتك؟
- واحد سوبيا من فضلك!
تتشابك الأيادي وتناول بعضها بعضاً الأكل. أكاد أقول لهم: "هدّوا شوية" لأحجز لكنافتي في معدتهم مقعداً. لكنهم أتوا على السمك والمخلل بمائه الأحمر!

ووقت الحساب، يُكرم "إبرهيم" العريس:
- إحنا عازمينك النهارده عشان فرحك..
- لا والله؟.. كده أنا هاتجوز كل يوم!..

** ** ** **

نصلي المغرب.. وأنتظر حتى تهدأ كركبة معدتهم ويستقر الأكل.. نعمل الشاي.. وأنسى فأقطع الكنافة في صمت وأقدمها لهم دون أن أحكي عن أصلها، وحشوها، ودون أن أريها لهم وهي في صينية حلويات من صواني جهازي!!

ثم ننطلق لنادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة أو "عند أحمد" كما يحلو لنا تسميته لاختصار الوقت الذي سنقضيه في نطق اسمه وحتماً سنخطئ. ننطلق وأنا ناقصة حتة.. فقد أفسد خجلي ولهفتي على نفسي حلاوة ما صنعته بالسَحَر! يقولون لي إنها طعمة وحلوة وتسلم إيدك يا "دعاء". ويؤكد "إبراهيم" أنها كذلك و"تعبت نفسك والله". لكنني لا زلت أشعر أنني ينقصني حتة!

تكتمل الدائرة في النادي، بعد أن ينضم إلينا "محمود فودة" وزوجته وابنه، و"أحمد سمير" أخي أبو أجمل عيون بنية، و"عمرو" أخي الأصغر صاحب أجمل عيون عسلية بها مسحة من أخضر تسلل خلسة من عيني ماما رحمها الله. نجتمع نحن البنات على خط التماس. أشجع فريق إخوتي الذين أحب تسميتهم "مشمشي" وأتعاطف مع فريق "أبو كرش" أو "حلّق حوش". يحرز الفريق الأول الأهداف تباعاً. ويحتدم الفريق الثاني ولا يتمخض عن احتدامه إلا إثارة الغبار.. يندفع "أحمد عمار".. يصرخ "إبراهيم" على "أحمد سمير" ليغطي الجهة اليمنى.. يشارك "محمد" في الهجمة المرتدة بالجري والتشجيع بطريقة مميزة تضحك أكثر منها تشجع: "ياللا يا "أحمد".. أيوه يا أحمد".. "محمود" يولول: "أصوّت يقولوا الولية اتجننت؟!".. وأنتفض من فوق الكرسي..
يسدد "أحمد".. جووووووووووووووووول... هييييييييييييييييييه.. جوووووووووول.. 1-5 وينبطح "أحمد عمار" أرضاً..!

** ** ** **

لم يطل بنا المُقام سوياً بعدها حتى يهلّ علينا قمرُ رمضان الرابع. وفرقتنا السُبل والأرزاق. لكن هـلَّ قمـرٌ آخر بملامح حقيقية ليست كالتي أتخيلها كل شهر على وجه القمر. قمر يبكي، ويتثاءب، وينام، وتعلق عيناه بمصدر الضوء. رأيته رأي العين، وقبّلته، واستطعت أن أجعله ينام. أسماه والده الذي كان عريساً بالأمس "ياسين". وكم كانت سعادته حينما رأى أنه لم يأخذ أُذُنه وأنه بذلك حينما يكبر: "مش هيعمل للناس باي باي بوادنه بعد ما يحلق"!!


التاسعة، مساء الإثنين 18 أغسطس 2008
17 شعبان 1429

** ** ** **** ** ** **